إن كان الكلام عن الكلام صعب، فلا شك أن حديث الفن عن الفن أصعب! فكيف اهتدى توفيق الجبالي بعبقرية استثنائية إلى نسج لوحة متفردة من الإبداع المسرحي وثّق فيها تجربة عمر من المسرح وقدّم من خلالها ترجمة حيّة لوجع وطن تسكنه الحيرة.
كان ختامها مسك في مهرجان المسرح العربي بتونس الذي اختار أن يسدل ستار اختتام دورته العاشرة على مسرحية “ثلاثين وأنا حاير فيك” لتوفيق الجبالي مساء اليوم الثلاثاء 16 جانفي 2018 بالمسرح البلدي بالعاصمة.
بمناسبة الاحتفال بحدث مرور ثلاثين سنة على تأسيس “فضاء التياترو” الذي تأسس سنة 1987 ليكون أول فضاء مسرحي خاص في تونس والعالم العربي، شاء المخرج توفيق الجبالي أن يكون الاحتفال بنكهة المسرح وبسحر الركح. فكانت ولادة مسرحية “ثلاثين وأنا حاير فيك”. في هذا العمل لوّحت السخرية بيديها إلى الجمهور وأطلّ النقد على الركح في ثوب الهزل المرّ في مشهدية مدروسة وسينوغرافيا معبّرة.
ممتعة حد الانبهار ومدهشة حد الافتتان ومربكة حد الانفعال… كانت مسرحية “ثلاثين وأنا حاير فيك” وهي تعزف على الركح شجن الوطن وألم المواطن، وتشدو على الخشبة مأساة الفن ونضال الفنان.
أبدا لم يكن هنالك ممنوعا أو محظورا أو خطوطا حمراء في هذه الكوميديا السوداء حيث تجرأ توفيق الجبالي على نقد خطب الساسة وفضح تجار الدين وتحليل أمراض المجتمع في علاقة الإنسان بالأنا والآخر، بالجسد والسلطة والمال…
قد تبدو مشاهد مسرحية “ثلاثين وأنا حاير فيك” مبعثرة وغير محتكمة إلى رابط منطقي ولكن هكذا أراد لها صاحبها أن تلامس سماء التجريب في تجديد للجماليات المسرحية. فكانت فوضى جميلة ومغرية ومثيرة. على خشبة هذا العرض الذي يختزل حياة فضاء وتجربة فنان تحرّر الفكر واللسان والجسد…في صرخة الحرية المدوية في وجه الطاغية والديكتاتورية.
كانت “ثلاثين وأنا حاير فيك” قطعة من الحياة العابثة، القاسية، الحلوة بحنظلها وعسلها… وهو ما جعل كل منا يجد شيئا منه على الركح وكأننا بالمسرحية لسان يتكلم عنا وجسد يتحرّك بدلا منا…فكان جزاء هذه الأيقونة المسرحية التصفيق الحار من الجمهور والهتاف المتتالي إعجابا من صفوف الحضور الذين رفعوا القبّعة لفنان أهداهم لحظة من المتعة الخاصة والفرجة العذبة في زمن عزّ فيه الإبداع.
وإن كان لكل بداية من نهاية، فلم تكن الخاتمة مرغوبة في “ثلاثين وأنا حاير فيك” حيث كانت الأمنية أن يطول العرض ويطول أكثر…حتى يتواصل الاستمتاع بهذه التحفة المسرحية التي جادت بها قريحة توفيق الجبالي في “ثلاثين” محيّرة أثارت العجب والطرب.