في ظلّ تصاعد تعقيد السياسات الجبائية وتزايد الالتباس في قراءة الأرقام المالية، بادر مركز التكوين والإعلام الجبائي، بالشراكة مع النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، إلى تنظيم دورة تكوينية في الجباية والمالية العمومية لفائدة الصحفيين، أشرف عليها المستشار الجبائي والصحفي الاستقصائي إسكندر السلامي.
وهدفت الدورة إلى دعم كفاءات الصحفيين في فهم المنظومة الضريبية، وتحليل القوانين المالية، واستيعاب الإجراءات الجبائية، بما يعزّز جودة التغطية الإعلامية للشأن الجبائي ويُسهم في الحدّ من توظيف المعطيات المالية بشكل مضلّل.
يعد الجدل حول النظام الجبائي في تونس مقتصرًا على نسب الضرائب أو مستوى الضغط الجبائي، بل أصبح مرتبطًا في جوهره بطريقة احتساب الضريبة وتوقيت استحقاقها، وهي عناصر تقنية في ظاهرها، لكنها تحمل آثارًا اقتصادية واجتماعية عميقة. هذا ما أكده المستشار الجبائي والباحث في الصحافة الاستقصائية إسكندر السلامي، الذي قدّم قراءة نقدية لمنظومة جبائية يعتبرها غير منسجمة مع الواقع الاقتصادي ولا مكرّسة لمبدأ العدالة الجبائية

أولى الإشكاليات التي يطرحها الخبراء تتعلق بما يُعرف بـ«الواقعة المنشئة للضريبة». فالقانون الجبائي التونسي يعتمد أساس الالتزام المحاسبي، أي أن الضريبة تصبح مستحقة بمجرد تسجيل العملية أو إصدار الفاتورة، بغضّ النظر عن تحصيل المداخيل فعليًا. هذا الخيار، الذي يهدف نظريًا إلى ضمان سرعة الاستخلاص، تحوّل عمليًا إلى عامل ضغط حادّ على المؤسسات، خاصة الصغرى والمتوسطة، التي تجد نفسها مطالبة بدفع الأداءات قبل أن تدخل الأموال إلى خزائنها.
الانعكاسات الاقتصادية على المؤسسات
في الواقع، يؤدي هذا النظام إلى اختناق مالي حقيقي، إذ تُجبر المؤسسات على تمويل الدولة من مواردها الخاصة أو من الاقتراض، في وقت تعاني فيه أصلًا من تأخر خلاص الحرفاء وارتفاع كلفة التمويل. والأسوأ من ذلك، أن المراقبة الجبائية قد تفضي إلى خطايا ثقيلة قد تبلغ نسبًا مرتفعة من رقم المعاملات، ما يحوّل الالتزام الجبائي من واجب قانوني إلى تهديد مباشر لاستمرارية المؤسسة.
ولا يقتصر الخلل الجبائي على عالم المؤسسات، بل يمتد إلى فئات اجتماعية يفترض أن تحظى بحماية خاصة، وعلى رأسها المتقاعدون. فالجرايات في تونس تُحتسب على أساس أجور مُسقّفة لا تعكس دائمًا الدخل الحقيقي الذي تمت عليه الاقتطاعات طيلة سنوات العمل، وهو ما ينعكس سلبًا على القدرة الشرائية للمتقاعد، خاصة في ظل التضخم وارتفاع كلفة العلاج والأدوية.
الأكثر إثارة للجدل هو التفاوت الجبائي بين المتقاعدين أنفسهم، حيث يستفيد المتقاعدون الأجانب أو التونسيون العائدون من الخارج من طرح جبائي يصل إلى 80% من جراياتهم، مقابل 25% فقط للمتقاعد التونسي المقيم. هذا الفارق، الذي يبلغ 55 نقطة مئوية، يطرح تساؤلات جدية حول مدى احترام مبدأ المساواة والإنصاف الجبائي المنصوص عليه دستوريًا، ويغذّي شعورًا متناميًا بالغبن لدى فئة واسعة من المواطنين.
من زاوية رأي، يبدو أن الإصلاح الجبائي في تونس لم يعد خيارًا تقنيًا مؤجلًا، بل ضرورة اقتصادية واجتماعية ملحّة. فاستمرار العمل بمنظومة تفرض الضرائب على مداخيل غير متحققة، أو تكرّس امتيازات جبائية غير متوازنة، يقوّض الثقة بين المواطن والإدارة ويغذّي ثقافة التهرّب والتجنّب الضريبي بدل الامتثال الطوعي.
إن بناء نظام جبائي عادل يقتضي مراجعة عميقة لمفاهيم أساسية، من بينها اعتماد الاستخلاص الفعلي خاصة لفائدة المؤسسات الصغرى والمتوسطة، وإعادة النظر في منظومة طرح الجرايات بما يضمن عدالة ضريبية حقيقية بين المتقاعدين. فالدولة التي تسعى إلى تنمية مستدامة لا يمكنها أن تعتمد الجباية كأداة ضغط قصيرة المدى، بل كرافعة إنصاف وثقة واستقرار اقتصادي.
